، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ﴾ أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة ﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ ﴾ وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت ( بنو قريظة ) و ( النضير ) يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ ﴾ [ الآية : ٨٥ ].
وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾ الآية. المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ]، ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ إلى - أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب. ورواه ابو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً : نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال ابن عباس في قوله :﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾ الآية. قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي ﷺ عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير.
وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : نزلت في الحرورية ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً ﴾ رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك : أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله ﷺ فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول الله ﷺ ذلك، فقال :« ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها » فقالوا : بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم.