﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ]، وكقوله في كفارة اليمين :﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة. واختلفوا، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة، وعليه التكلان. وأما قوله تعالى :﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ﴾ قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال عطاء الخراساني : ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان : أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام. وقال آخرون : المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير : أن المراد بالنفي هاهنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله تعالى :﴿ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال : إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله ﷺ كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وعن علي قال : قال رسول الله ﷺ :« من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه » وقال ابن جرير ﴿ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا ﴾ : يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم.