قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله :﴿ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٩ ]، ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ أي بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾.
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون إنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال :﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين ﴾ ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، ﴿ والربانيون والأحبار ﴾ أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، والأحبار وهم العلماء ﴿ بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله ﴾ أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون ﴾ أي لا تخافوا منهم وخافوا مني ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون ﴾ فيه قولان سيأتي بيانهما.
( سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات )
قال أبو جعفر بن جرير، عن عكرمة عن ابن عباس : إن الآيات التي في المائدة قوله :﴿ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ - إلى المقسطين ﴾ إنما أنزلت في الدية في ( بني النضير ) و ( بني قريظة )، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله ﷺ على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي، ثم قال ابن جرير، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله ﷺ قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إليه، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله ﷺ فنزلت :﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط ﴾ ورواه أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك.