يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا :﴿ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين، قال الله تعالى :﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ أي بل ظهر لهم حينئذٍ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ٢٣-٢٤ ]، ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه كقوله مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] الآية. وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ]، ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال :﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين ﴾ [ الآية : ١١ ]، وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين يعاينون العذاب، فظهر لهم حينئذٍ غِبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق، والله أعلم.
وأما معنى الإضراب في قوله :﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ﴾ فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم : إنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي في قولهم :﴿ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ ﴿ وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ أي لعادوا لما نهو عنه، ولقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا، أي ما هي إلاّ هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها، ولهذا قال :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾، ثم قال ﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ ﴾ أي أوقفوا بين يديه ﴿ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق ﴾ ؟ أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ﴿ قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه ﴿ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الطور : ١٥ ].


الصفحة التالية
Icon