لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبّه تعالى على أن من أحسن من الأُمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كلُّ من اتبع الرسول النبي الأمّي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى :﴿ ألا إن ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس : ٦٢ ]. عن مجاهد قال : قال سلمان رضي الله عنه : سألت النبي ﷺ عن أهل دين كنتُ معهم فذكرت من صَلاتهم وعبادتهم، فنزلت :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر ﴾ إلى آخر الآية. وقال السُّدي : نزلت في أصحاب ( سلمان الفارسي ) « بينا هو يحدِّث النبي ﷺ إذا ذكر أصحابه فأخبروه خبرهم فقال : كانوا يصلون، ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له النبي ﷺ : يا سلمان هم من أهل النار » فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسُنَّة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد ﷺ، فمن لم يتبع محمداً ﷺ منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً.
( قلت ) : وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس ﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ ﴾ الآية قال : فأنزل الله بعد ذلك :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقه ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد ﷺ بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام :﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] أي تبنا فكأنَّهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل : لنسبتهم إلى ( يهودا ) أكبر أولاد يعقوب، فلما بعث عيسى ﷺ وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى عليه السلام :


الصفحة التالية
Icon