وروى ابن جرير عن السدي في قوله :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن أخته، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غلب محمداً فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً. فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل. فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ فآيات الله محمد ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾، هذه تسلية للنبي ﷺ وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ووعد له بالنصر كما نصروا، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخر، ولهذا قال :﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله ﴾ أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين، كما قال :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١-١٧٣ ] وقال تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين ﴾ أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة، ثم قال تعالى :﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ﴾ أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك ﴿ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء ﴾، قال ابن عباس : النفق : السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية، أو تجعل لك سلماً في السماء، فتصعد فيه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيتهم به فافعل، وقوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾ [ يونس : ٩٩ ] الآية، قال ابن عباس : إن رسول الله ﷺ كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلاّ من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول. وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ ﴾ أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، كقوله :﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين ﴾ [ يس : ٧٠ ]. وقوله :﴿ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب، فشبههم الله بأموات الأجساد، فقال :﴿ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾، وهذا من باب التهكم بهم والإزراء عليهم.


الصفحة التالية
Icon