« أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا أدري يا رب، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك » وذكر الحديث. وقوله :﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين ﴾ قيل الواو زائدة تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين، كقوله :﴿ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين ﴾ [ الأنعام : ٥٥ ] وقيل : بل هي على بابها أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً.
وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾ أي تغشاه وستره ﴿ رَأَى كَوْكَباً ﴾ أي نجماً، ﴿ قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ ﴾ أي غاب. قال محمد بن إسحاق الأفول : الذهاب، وقال ابن جرير : يقال أفل النجم يأفِل ويأفلُ أفولاً وأفلاً : إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة :

مصابيح ليست باللواتي نقودها دياج ولا بالآفلات الزوائل
ويقال : أين أفلت عنا؟ بمعنى أين غبت عنا. ﴿ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين ﴾، قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ﴿ فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً ﴾ أي طالعاً، ﴿ قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين * فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي ﴾ أي هذا المنير الطالع ربي ﴿ هاذآ أَكْبَرُ ﴾ أي جرماً من النجم والقمر وأكثر إضاءة، ﴿ فَلَمَّآ أَفَلَتْ ﴾ أي غابت ﴿ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض ﴾ أي خلقهما ﴿ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾ أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض ﴾ أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ﴿ حَنِيفاً ﴾ أي في حال كوني حنيفاً أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال :﴿ وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾. وقد اختلف المفسرون في هذا المقام : هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله :﴿ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي ﴾ الآية. وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد، فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي ( القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل ) وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر، ثم الزهرة، فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيع عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تملك لنفسها تصرفاً، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر، فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع ﴿ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين ﴾ أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه وملكيه وإلهه، كما قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon