يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس ﴿ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٤ ] واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد، فقال :﴿ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ أي كما أغويتني، قال ابن عباس : كما أضللتني، وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على ﴿ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ أي طريق الحق وسبيل النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي، وقال بعض النحاة : الباء هنا قسمية، كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم، قال مجاهد :﴿ صِرَاطَكَ المستقيم ﴾ يعني الحق، والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك، روى الإمام أحمد عن رسول الله ﷺ قالل :« إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائكك قال فعصاه وأسلم قال : وقعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال، فقال تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال، قال فعصاه وجاهد، قال رسول الله ﷺ : فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة » وقوله :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ الآية، قال ابن عباس :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾ أشككهم في آخرتهم ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أرغبهم في دنياهم ﴿ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ أشبه عليهم أمر دينهم ﴿ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ أشهي لهم المعاصي، وعنه : أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم، وأما من خلفهم فأمر آخرتهم، وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم، وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم، وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال مجاهد :﴿ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ﴾ من حيث يبصرون، ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ﴾ حيث لا يبصرون، واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يحسنه لهم، وقال ابن عباس ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ قال : موحدين، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع كما قال تعالى :