ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون﴾ ولم يقل: (إني لا يخاف مني المرسلون) لأن المرسلين لا يخافون بحضرته، ولكنهم يخشونه ويخافونه كل الخوف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أخشاكم لله" فهو أخوفُ الناس منه، وأخشاهم له.
١٤- قال في النمل: ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ولم يقل مثل ذلك في القصص، لأنه لا يحسن أن يقال: (إنك من الآمنين إلا من ظلم، ثم بدل حسناً بعد سوء..) ولو قال هذا لم يكن كلاماً.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ناسب ذلك قول ملكة سبأ ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾. فإنها ظلمت نفسها بكفرها وسجودِها للشمس من دون الله، ثم بدّلت حُسْناً بعد سوء، فأسلمتْ لله رب العالمين. فلاءم هذا التعبير موطنه من كل ناحية.
وقد تقول: لقد ورد مثل هذا التعبير في سورة القصص أيضاً، وهو قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾.
والحق أن المقامين مختلفان، فإن القول في سورة القصص هو قول موسى عليه السلام حين قتل المصري، وموسى لم يكن كافراً بالله، بل هو مؤمن بالله تعالى، ألا ترى إلى قوله منيباً إلى ربه بعد ما فعل فعلته: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي﴾ وقوله حين فرَّ من مصر: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ وقوله: ﴿قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾.
فإن موسى لم يبدّل حُسْناً بعد سوء، ذلك أنه عليه السلام لم يكن سيئاً بخلافِ ملكة سبأ، فإنها كانت مشركة، وقد بدّلت حسناً بعد سوء. فما جاء من قوله: ﴿إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء﴾ أكثر ملاءمة للموضع الذي ورد فيه من كل ناحية.