والإنسان قد يترك أمه وأباه ليعيش مع زوجه وأبنائه وهو ألصق بأبنائه من زوجه، فقد يفارق زوجه ويسرحها ولكن لا يترك ابنه.
فالأبناء آخر مَنْ يَفرُّ منهم المرءُ ويهرب.
وهكذا رتب المذكورين في الفرار بحسب العلائق، فأقواهم به علاقة هو آخر من يفر منه، فبدأ بالأخ ثم الأم ثم الأب. وقدم الأم على الأب، ذلك أن الأب أقدر على النصر والمعاونة من الأم. وهو أقدر منها على الإعانة في الرأي والمشورة، وأقدر منها على النفع والدفع. فالأم في الغالب ضعيفة تحتاج إلى الإعانة بخلاف الأب. والإنسان هنا في موقف خوف وفرار وهرب، فهو أكثر التصاقاً في مثل هذه الظروف بالأب لحاجته إليه، ولذا قدم الفرار من الأم على الفرار من الأب، وقدم الفرار من الأب على الفرار من الزوجة، لمكانةِ الزوجةِ من قلب الرجل وشدة علاقته بها، فهي حافظة سره وشريكته في حياته، ثم ذكر الفرار من الأبناء في آخر المطاف، ذلك لأنه ألصق بهم وهم مرجوون لنصرته ودفع السوء عنه أكثر من كل المذكورين.
هذا هو السياقُ في (عبس) سياقُ الفرار من المعارف وأصحاب العلائق أجمعين لِلْخُلُوِّ إلى النفس، فإنَّ لكل امرىء شأناً يشغله وهمّاً يُغْنيه.
أما السياق في سورة المعارج، فهو مختلف عما في (عبس) ذلك أنه مشهد من مشاهد العذاب الذي لا يُطاق، فقد جيء بالمجرم، لِيُقذفَ به في هذا الجحيم المستعر، وهذا المجرم يودُّ النجاةَ بكل سبيل ولو أدى ذلك إلى أنْ يبدأ بابنه، فيضعه في دركات لظى. فرتب المذكورين ترتيباً آخر يقتضيه السياق، وهو البدء بالأقربِ إلى القلب والأعلقِ بالنفس فيفتدي به فضلاً عن الآخرين.


الصفحة التالية
Icon