التعبير، لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول: إن هذه هي مواطن الإعجاز، ولا بعض مواطن الإعجاز وإنما هي ملامح ودلائل، تأخذ باليد وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالكَ على أن هذا القرآن كلامٌ فنيٌّ مقصود، وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً مُحْكماً فريداً، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ [الطور: ٣٤].
أما شأن الإعجاز، فهيهات هيهات، إنه أعظمُ من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نَصِفُ، وأعجبُ من كل ما نقف عليه من دواعي العجب.
إن هذا القادم من الملأ الأعلى، والذي نزل به سيدٌ من كبار سادات الملأ الأعلى، فيه من الأسرار، ودواعي الإعجاز، ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي.
قد ترى أن في قولي مبالغةً وادعاءً أو انطلاقاً من عاطفةِ دينٍ أو التهابِ وجدانٍ، وليس بوسعي أن أمنعكَ من هذا التصور، ولا أن أردَّ عنك ما ترى.
ولكن، لو فُتح القلبُ المقفل، وأُوقد السراجُ المُعطَّل، وأشرقت بالنور حنايا لم تكن تعرف النور، ولامست فؤادك نفحةٌ من روح الملك القدوس، وهبَّت على أوديةِ نفسك، نسمةٌ من عالم الروح، وسمعتَ صوتاً يملأ نفسك، قادماً من بعيد، من الملأ الأعلى يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق﴾ [الحديد: ١٦]. ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧]. فقفَّ شعرُ بدنك، واقشعرّ جلدك، ومار فؤادك، وتحركت السواكن، واضطرب بين جنبيك ما اضطرب، والتهب فيه ما التهب، وانهمرت الدموع تسيلُ في شعاب القلوب التي قتلها الظمأ،