ثم الوجهُ في قراءةِ مَ، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإنكار، فاتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، والوجهُ في قراءةِ منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإنكار في الأخرى، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلتِّباعِ الأثَر.
* ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
قوله تعالى: ﴿قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن "السَّيِّئة" قاله أبو البقاء.
قوله: ﴿وَقَدْ خَلَتْ﴾ يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر، وأن تكونَ مستأنفةً. والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة "مَثُلَة" كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس: : العقوبات المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما"، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة كقوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها.
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في "مَثْلة"./ وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما.
فأمَّا الضمُّ والإسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه.
(٩/٩٧)
---


الصفحة التالية
Icon