قوله: "حَسِيْبا" فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: "وهو بمعنى حاسِب، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها، وصَرِيْم بمعنى صارِم، ذكرهما سيبويه، و "على" متعلقةٌ به مِنْ قولك: حَسِب عيله كذا، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد، فعُدِّي بـ "على" لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه. فإن قلت: لِمَ ذَكَرَ "حسيباً"؟ قلت: لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل: كفى بنفسِك رجلاً حسيباً، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ، كما يقال: ثلاثة أنفس". قلت: ومنه قولُ الشاعر:
٣٠٤٠- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ * لقد جارَ الزمانُ علي عيالي
والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ، وذُكِرَ لِما تقدَّم. وقيل: حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى: مُخالِط ومُجالس.
* ﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾
قوله تعالى: ﴿أَمَرْنَا﴾: قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلأٍ، حاصلُه: أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه، وقدَّر متعلِّق الأمرِ: الفسق، أي: أَمَرْناهم بالفسق قال: "أي: أَمَرْناهم بالفِسْق، فعملوا، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم: افْسُقوا، وهذا لا يكونُ، فبقي أن يكونَ مجازاً. ووجهُ المجازِ: أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً، فجهلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا".
(٩/٣٢٨)
---