وللناس في هذا الكلامِ قولان، أحدهما: أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ. والثاني: أنه استعارةٌ. وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين. وقال الزمخشري: "مَثَّل تصميمَهم على الكفر، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه، ولا يُطَأْطِئُون رؤوسَهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله". وقال غيره: "هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه". قال ابن عطية: "وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين" انتهى. وتقدَّم تفسيرُ الأذقان.
قوله: "فهم مُقْمَحُوْن" هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ، فترتفعُ رؤوسُهم. والإِقْماح: رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ: إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحاً وقِماحاً بكسرِ القافِ وضمِّها. وأَقْمَحْتُه أنا إقماحاً والجمع قِماح وأنشد:
٣٧٧٥- ونحن على جوانبِها قُعودٌ * نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ
يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ. قالَ الزجاج: "قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رؤوسَها لشدَّةِ البردِ". وأنشد أبو زيد للهذلي:
(١٢/١٤٩)
---