وقال جماعةٌ: ليس للتوكيد فقال الأخفش: "لا أعبد الساعةَ ما تبعدون، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ ما عَبَدْتُمْ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيدُ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِالزمان الآخر" انتهى. وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله ﷺ نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبدون بزمانٍ، هذا لا يَصِحّث. وفي الأسبابِ: أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُد آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدونَ إلهه سنةً، فنزلَتْ فيكف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه: وهو كونُ "ما" في الأوَّلَيْن بمعنى الذي، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً. وفيه نظرٌ أيضاً: مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ "ما" وقال ابن عطية: "لَمَّا كان قولُه "لا أَعْبُدُ" محتمَلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقوله ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ أي: أبداً وما حَيِيْتُ، ثم جاء قولُه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ، كما قيل لنوح عليه السلام: "أنَّه لن يؤمِنَ مِنْ قومِك إلاَّ مَنْ قد آمَنَ" فهذا معنى الترديدِ في السورة وهو باعُ الفصاحةِ، وليس بتَكْرارٍ فقط، بل فيه ما ذكْرَتُه".
(١٥/١)
---


الصفحة التالية
Icon