وهذا ضرب من وجوه إعجاز القرآن، وهو ضرب من الإعجاز الذي حدا ببعض العلماء إلى التساؤل عما إذا قرئت الآية بقراءتين، هل معنى هذا أن الله قال بهما جميعا؟، ثم أورد السيوطي قول أحد هؤلاء العلماء، وهو أبو الليث السمرقندي الذي يحكى رأيين، أحدهما أن الله قال بهما جميعا، والثاني أن الله قال بقراءة واحدة، إلا أنه أذن أن تقرأ بقراءتين، ثم اختار توسطا، وهو أنه إن كان لكل قراءة تفسير يغاير الآخرى، فقد قال بهما جميعا، وتصير القراءتان بمنزلة آيتين، وإن كان تفسيرهما واحدا، فإنما قال بإحداهما، وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة، على ما تعود لسانهم، فإن قيل :"إذا قلتم إنه قال بإحداهما، فأي القراء تين هي ؟ قلنا : التي بلغة قريش"(١). وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن معرفة التفاسير الواردة عن الصحابة بحسب قراءة مخصوصة، ضرورة ملحة، وذلك أنه قد يرد عنهم تفسيران في الآية الواحدة مختلفان، فيظن ظان بأنه اختلاف وليس باختلاف، وإنما كل تفسير على حسب القراءة التي ورد بها.
وقد تعرض السلف من العلماء لذلك، فأخرج ابن جرير في قوله تعالى :(لَقالواْ إِنَّما سُكِّرَتَ أبْصارُنا)(٢)، من طرق عن ابن عباس وغيره، أن (سكرت) بمعنى (سدت)، ومن طرق أنها بمعنى (أخذت). ثم أخرج عن قتادة قال : من قرأ (سكِّرت) مشددة، فإنما يعنى (سدت)، ومن قرأ (سكِرت) مخففة، فإنه يعنى (سحرت)، وهذا الجمع من قتادة نفيس بديع.
ومثله قوله تعالى :(سَرابِيلُهُم مِّنْ قَطِرانٍ)(٣)، أخرج ابن جرير عن الحسن أن القطران هو الذي تهنأ به الإبل، وأخرج من طرق عنه وعن غيره أنه النحاس المذاب، وليسا بقولين، وإنما الثاني تفسير لقراءة من قرأ (قَطِرٍ آنٍ)، بتنوين (قطر)، وهو النحاس، و(آن) شديد الحر، كما أخرجه ابن أبي حاتم هكذا عن سعيد بن جبير.
(٢) سورة الحجر : آية ١٥
(٣) سورة إبراهيم : آية ٥٠