متلبسين بالغيب عن المؤمن به، و «الغيب» حينئذ مصدر على بابه.

فصل في معنى «يؤمنون بالغيب»


في قوله «يؤمنون بالغيب» قولان:
الأول: قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: «يؤمنون بالغيب» صفة المؤمنين معناه: أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين «إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا، آمَنَّ: وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ».
نظيره قوله: ﴿ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب﴾ [يوسف: ٥٢]، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين.
الثاني: وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل.
فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا، ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة، والعلم بالنبوة، والعلم بالأحكام بالشرائع، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم.
واحتج أبو مسلم بأمور:
الأول: أن قوله: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ٤] إيمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله: «الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ» هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وهو غير جائز.
الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور.
الثالث: لفظ «الغيب» إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته، فقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟


الصفحة التالية
Icon