فإمَّا إثبات الإله، فبقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾، وأمَّا إثبات المعاد، فبقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً﴾ [يونس: ٤] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن، فإن قيل: كلمة «الَّذي» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع، كما إذا قيل لك: مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول: الذي أبوه مُنْطلق، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع، فهاهنا لما قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟.
فالجواب: أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف. فإن قيل: ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟
فالجواب على قول أهل السُّنَّة: أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح، وأمَّا على قول المعتزلة: وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة، فقال القاضي: «لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين» ثم قال: فإن قيل: فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال: أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟.
قلنا: إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور، لأنَّا نخشى الفَوْت، ونخافُ العَجْز.
قال: وإذا ثَبَتَ هذا، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى.
لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ. وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك.
فإن قيل: هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا، أو كما قال ابن عباس: إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون


الصفحة التالية
Icon