والمعنى: على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي﴾ [الأنعام: ٥٢].
زالجوابُ: يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة.
ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ فآتي منها ما تطلبون، ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ فأخبركم بما تُريدُونَ.
وقيل: إنَّهم لمَّا قالوا لنوح: إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: لا أقول لكم: عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، ﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ هذا جواب لقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾ [هود: ٢٧] وقيل معناه: لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين.
واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا: لأنَّ الإنسان إذا قال: لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً﴾ وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال: لا أقولُ للذين يحتقرونهم: لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي: توفيقاً وإيماناً وأجراً ﴿الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي.
وقوله: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ﴾ كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ معطوفٌ على ﴿عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ أي: لا أقول: عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ: أنَا أعلمُ الغَيْبَ».
قوله: «تَزْدَرِي» تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي: حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد