وقال ابنُ عطيَّة «أي: الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء» وقرىء «مِن اللهِ» بكسر نون «مِنْ» على أصل التقاءِ السَّاكنينِ، أو على الإتباع لميم «مِنْ» وهل لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ، وكسرها مع غيرها، نحو «مِن ابنك»، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك، بكسر النونِ مع لام التَّعريف.
فإن قيل: ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ: قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاهدهم، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين. روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا بالأراجيف، وجعل المشركون ينقضون العهد، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم، التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الزجاج: «بَراءَةٌ» أي: قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا.
فإن قيل: كيف يجوزُ أن ينقض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العهد؟.
فالجوابُ: لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه:
فالأول: أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم، فينبذ العهد إليهم، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد، لقوله ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] وقال أيضاً: ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾
[الأنفال: ٥٦].
الثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط.
الثالث: أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤]، وقيل: إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة.
قوله: ﴿إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ الخطاب مع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون، فكأنَّهم «عَاقَدُوا» وعاهدوا.