عمران: ١٨٦] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين:
أحدهما: أنه مصدر في معنى المعفولِ، قال: «أي: غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري، فيكون في معنى الفاعل».
وقرأ الحسن وعيسى «وحَزَنِي» بفتحتين، وقتادة بضمتين، وقد تقدم.

فصل


المعنى: أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم، قال: إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا؛ لأنَّ صابحه لا يبصر عليه حتى يبثه، أي: [يظهره].
وقال الحسن: بَثِّي، اي: حاجتي، والمعنى: أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان ف يزمرة المحققين.
وروي أنَّهُ قيل له: يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه: أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال: ﴿إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله﴾ ثم قال: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي: أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً:
أحدها: أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له: يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال: لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال: اطلبهُ هاهنا.
وثانيها: أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له.
وثالثها: لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب.
ورابعها: قال السديُّ: لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال: لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا.
وخامسها: علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه؛ فغلب على [ظنه] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام، فعند ذلك قال: ﴿يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه﴾ أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة.
قال ابنُ الأنباريِّ «يقالُ: تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال: من فلان، وقيل: ههنا من


الصفحة التالية
Icon