والقول الثاني: أنَّ «كَادَ» للمقاربة، فقوله «وَلا يَكادُ» لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل إلا ساغة؟.
كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠]، أي: لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها؟.
فإن قيل: فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ المعنى: ولا يسيغ جميعه.
والثاني: أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة: إجراء الشرب في [الحلق] بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل: «لا يَكَادُ» على نفي المقاربة.
قوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ أي: أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة.
فمنهنا: ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: ﴿يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: ١٧].
ومنها: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ [النمل: ٨٠].
ومنها: الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧].
ومنهنا: النوم، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ ﴿والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
وقد قيل: النوم: الموتُ الخفيف، والموتُ: النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل، والسؤال، والهرم، والمعصية، وغير ذلك، ومنه الحديث «أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى».
وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه: « [أمَا] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ».
ولنرجع إلى التفسير، فنقول: قيل: بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه.