على ذلك الفساد محالاً، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً، لا يقبل النَّسخ والرفع، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه، ولعنوا على فعله؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه.
الثاني: قوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بعثهم على بني إسرائيل، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة.
ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله: ثم ﴿بَعَثْنَا﴾ وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى. أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين:
الأول: قوله: «بَعَثْنَا» هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل؛ لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ.
والثاني: أنَّ المراد: خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع.
والجواب الأوَّل ضعيفٌ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس، وإحراق التوراة، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال: إنهم فعلوا ذلك بأمر الله.
والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع، فالأول فعلٌ، والثاني تركٌ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر، وإنه لا يجوز، فثبت صحَّة ما ذكرناه.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب، فعند ذلك ظهر أنههم أطاعوا، فقال تعالى: إن أطاعوا، فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرُّوا على المعصية، فقد أساءوا إلى أنفسهم، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ، فلهذا المعنى قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾.
قوله تعالى: ﴿فَلَهَا﴾ : في اللام أوجه: أحدها: أنها بمعنى «على» أي: فعليها كقوله: [الطويل]
٣٣٨٠ -......................


الصفحة التالية
Icon