وقرأ علي بن الحسين وقتادة «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدر أقيم مقام الاسمِ، وكثر هذا في صفات الأمكنة نحو: «مَذْأبَة».
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم، ﴿وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ أي لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما، لم يعرف الليل من النهار؛ ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يدر وقت الحجِّ، ولا وقت حلول الآجالِ، ولا وقت السكون والرَّاحة.
واعلم أن الحساب مبنيٌّ على أربع مراتب: الساعات، والأيام، والشُّهور، والسِّنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشُّهور، والأيَّام، والسَّاعات، وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلاَّ التكرار؛ كما أنَّهم رتَّبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد، والعشرات، والمئات، والألوف، وليس بعدها إلا التكرار.
قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لتقدم جملة فعلية؛ وكذلك «وكُلَّ إنسانٍ ألْزمْنَاه».
والثاني - وهو بعيد: - أنه منصوب نسقاً على «الحِسابَ»، أي: لتعلموا كل شيء أيضاً، ويكون «فصَّلناهُ» على هذا صفة.
والمعنى: أنه تعالى لمَّا ذكر أحوال آيتي اللَّيل والنَّهار، وهما من وجهٍ: دليلان قاطعان على التَّوحيد، ومن وجهٍ آخر: نعمتان عظيمتان من الله على الخلق، فلما شرح الله تعالى حالهما، وفصَّل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق؛ ومن وجوه النِّعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً، فلا جرم قال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ﴾ أي: فصَّلنا لكم كلَّ ما تحتاجون إليه في مصالح دينكم ودنياكم، فهو كقوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] وإنما ذكر المصدر، وهو قوله: «تَفْصِيلاً» لأجل تأكيد الكلامِ وتقريره، فكأنه قال: «وفَصَّلنَاهُ حقًّا على الوجهِ الذي لا مزيد عليه».
قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ الآية.
في كيفية النَّظم وجوهٌ:
أولها: أنه تعالى لمَّا قال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء: ١٢] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد، والنُّبوَّة، والمعاد، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح


الصفحة التالية
Icon