ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً﴾ [البقرة: ٢٢] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.
ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى: ﴿والسماء بِنَآءً﴾ [البقرة: ٢٢].
ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢].
النوع الثاني: أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [الأدون فالأدون] ؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾.
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ.
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ﴾ إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول: إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.
الثالث: أنَّ الغذاء يحصل له: في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ.
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [الطبيعة] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، وغيرها.
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع.
وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ: إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.


الصفحة التالية
Icon