يقدر على توصية (ما) ولو كانت بِكَلِمةٍ يسيرة، ولأن الوصية قد تحصل بالإشارة، فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. قوله: ﴿إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ بيان لشدة الحاجة إلى التوصية، ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بتفح لاواو وهي القبور واحدها جَدَث، وقرئ من الأجدافِ بالفاء، وهو لغة في الأجداث يقال: جَدَث، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ، وثُوم، وفُوم.
فإن فيل: أين يكون ذلك الوقت وقد زلزت الصيحة الجبال؟.
فالجواب: أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْرِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه.
قوله: ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ أي يخرجون من القبور أحياء. وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية: يَنْسُلُونَ بضم السين، يقال: نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَنْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ، ومنه قيل للولد: نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه.
فإن قيل: المسيء إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟
فالجواب: ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث نفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله: «إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ» أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
فإن قيل: قال في آية ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] وقال ههنا: ﴿فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين: «إذا هم» يقتضي أن يكونا معاً.