اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ». وكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - تقول: لم ير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه. وتحمل الرؤية على رؤية جبريل. وقال مسروق: قلت لعائشة: يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأتْ: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الأنعام: ١٠٣] ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ [لقمان: ٣٤] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت: ﴿يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ الآية [المائدة: ٦٧] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. وروى أبو ذر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هل رأيت ربك قط؟ قال: نُورٌ أنَّى أَرَاهُ».
قوله: «أَفَتُمَارُونه» قرأ الأخوان أَفَتَمْرُونَهُ بفتح التاء وسكون الميم، والباقون تُمَارُونَهُ. وعبد الله الشعبي أَفَتُمْرون بضم التاء وسكون الميم. فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: أنها من مَرَيْتُهُ حَقَّه إذا علمته وجَحَدتَهُ إياه، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة. وأنشد:

٤٥٥٤ - لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ لَقَدْ مَرَيْتَ أَخاً مَا كَانَ يَمْرِيكَا
لأنه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه.
وقال المبردُ يقال: مَرَاهُ عَنْ حَقِّه وعَلَى حَقِّه إذا مَنَعَهُ منه، قال: ومثلُ «على» بمعنى «عن» قول بني كعب بن ربيعة: «رَضِيَ اللَّه عَليكَ» ؛ أي: عَنْكَ.
والثاني: أنها من مَرَأَهُ على كذا أي غلبه عليه، فهو من المِرَاءِ وهو الجِدَالُ.
وأما الثانية: فهي من مَارَاه يُمَارِيه مراءً أي جَادَلَهُ.
واشتقاقه من مَرْي الناقة لأن كل واحد من المُتَجادِلَيْنِ يَمْرِي ما عند صاحبه. وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك: جَادَلْتهُ فِي كذا. وإنّما ضُمِّن معنى الغلبة. وأما قراءة عبد الله فمن أَمْراهُ رباعيًّا.


الصفحة التالية
Icon