قال ابن الخطيب: لأن التأنيث قبل الجمع، لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل، ولم تحصل الأنُوثَةُ للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾ بعد قوله: «كَذَّبَتْ» ؟
قال ابن الخطيب: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن قوله «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ» أي بآياته فكذب هؤلاء عبدنا بآية الانشقاق فَكذَّبُوكَ.
الثاني: كذبت قوم نوح المرسلين وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره؛ وذلك لأن قومَ نوح كانوا مشركين يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كُلَّ رسول، وينكر الرسالة، لأنَّه يقول: لا تعلق لله بالعالم السُّفْلِيِّ، وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيبَ فكذَّبُوك.
الثالث: أن قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾ للتصديق والرد عليهم تقديره: كذبت قوم نوح فكان تكذيبهم تكذيب عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق.
فإن قيل: لو قال: فكذبوا رسولنا كان أدلَّ على قُبْحِ فعلهم فما الفائدة في اختيار لفظ العبد؟
فالجواب: أن قوله: عَبْدَنَا أدلّ في صدقه وقبح تكذيبهم من قوله: «رسولنا» ؛ لأن العبد أخوف وأقلّ تحريفاً لكلام السيِّد من الرسول فيكون كقوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٥].
قوله: «وَقَالُوا مَجْنُونَ» مجنون خبر ابتداء مضمر أي هُو مجنون، وهذا إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا عنه، وقالوا مصاب الجن أو زيادة بيان لقُبْح صنيعهم حيث لم يَقْنَعُوا بتكذيبهم بل قالوا: مجنون أي تَقَوَّل ما لا يقبله عاقلٌ والكاذب العاقل يقول ما يظن به صدقهُ، فيكون قولهم: مَجْنُونٌ مبالغة في التَّكْذِيبِ.
قوله: «وَازْدُجِرَ» الدال في «ازدجر» بدل من تاء لِمَا تَقَدَّمَ.
وهل هو من مقولهم أي قالوا إنه ازدجر أي ازْدَجَرَتْهُ الجِنُّ وذهبت بُلبِّه - قاله مجاهد - أو هو من كلام الله تعالى أخبر عنه بأنه انتُهِزَ وزجر بالسبِّ وأنواع الأذى؟ وَقَالوا «لِئَنْ لَمْ تَنْتَهِ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ». قال ابن الخطيب: وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر من تقدمه، وأيضاً ترتب عليه قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾، وهذا الترتب في غاية