وجعل الجار خبراً، والصفة فضلة، وعكس هذا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: ٧٤]، قيل: لأن الخبر مقصور الجملة، والغَرَضُ هناك الإخبار عن تخليدهم، لأن المؤمن قد يدخل النار، ولكن لا بد من خروجه، وأما آية المتقين، فجعل الظرف فيها خبراً لأمنهم الخروج منها، فجعل ذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالاً.
فصل
اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة، قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ [الرعد: ٣٥] و [محمد: ١٥] وأخرى جمعها كقوله ههنا: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ﴾ وتارة ثَنَّاها، قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن.
قال ابن الخطيب: غيرَ أنَّا نقول ههنا: إن الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجَنَّات ثم يقول إنه في جنة، لأنه دون الموعود، وقوله: «وَعُيُونٍ» يقتضي أن يكون المُتَّقِي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماءٍ؛ فالمعنى في خلال العيون، أي بين الأنهار كقوله: «في جَنَّاتٍ» معناه بين الجنات وفي خلالها؛ لأن الجنة هي الأحجار، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك: فُلاَنٌ رَجُلٌ أي عظيم في الرجولة.
ومعنى: «آخذين» أي قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل: معنى آخذين أي قابلين قبول راضٍ كقوله تعالى: ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ [التوبة: ١٠٤] أي يقبلها، قاله الزمخشري. وقال ابن الخطيب: وفيه وجه ثالث، وهو أن قوله: فِي جَنَّاتٍ يدلّ على السُّكْنَى حيث قال: آخِذينَ بلادَ كذا، أو قَلْعَة كذا، أي دخلها متملّكاً لها، وكذا يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليلٍ أي تملكه، وإن لم يكن هناك قبص حسًّا ولا قبول برِضًى.
وحيئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعيرٍ أو من يسترد منه ذلك بل هو ملكُه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله.
وقوله: «آتاهُمْ» لبيان (أن) أخذهم ذلك لم يكن عَنْوَةً، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه «ما» راجعة إلى الجَنَّاتِ والعُيُون.