قط، فقال آخر: إنه مجنون، فقال الوليد: الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فشاع ذلك في الناس، فصاحوا يقولون: محمد ساحر والناس مجتمعون، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾.
وثالثها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نائماً، متدثراً بثيابه، فجاءه جبريل - عليه السلام - وأيقظه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقال: ﴿يا أيها المدثر قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ كأنه قال: اترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له.
وإن قلنا: ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه:
الأول: قال عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة، والرسالة انْقُلْها، من قولهم: ألبسه اللَّهُ لباس التقوى وزيَّنَهُ برداء العلم.
قال ابن العربي: «وهذا مجاز بعيد، لأنه لم يكن تنبأ بعد، وإن قلنا: إنها أول القرآن لم يكن نبياً بعد إلا إن قلنا: إنها ثاني ما نزل».
الثاني: أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في جبل حراء كالمتخفي من النَّاس، فكأنه قال: يا أيها المدثِّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحقِّ.
الثالث: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثِّر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة: «قُمْ فأنْذِرْ» عذاب ربّك.

فصل في لطف الخطاب في الآية


قوله تعالى: ﴿يا أيها المدثر﴾ ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل: يا محمدُ، كما تقدم في المزمل.

فصل في معنى «فأنذر»


ومعنى قوله تعالى: ﴿فَأَنذِرْ﴾، أي: خوِّف أهل مكة، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.


الصفحة التالية
Icon