الثالث: أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: ١٢].
وقيل: أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١].
فصل في المراد بالإحصاء
معنى ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي: علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى: ﴿أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: ٦].
قال ابن الخطيب: وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى: «جَزَاءً وفاقاً»، كأنه تعالى قال: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾
قال ابن الخطيب: هذه «الفاء» للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه «الفاء» أفادت عين فائدة قوله: «جزاء وفاقاً».
فإن قيل: أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ [البقرة: ١٧٤].
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم: «فذوقوا»، فقد كلَّمهُمْ؟.
فالجواب: قال أكثر المفسرين: ويقال لهم: «فَذُوقُوا».
ولقائلٍ أن يقول: قوله: ﴿فَلَن نَّزِيدَكُمْ﴾ لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال: قوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران: ٧٧] معناه: ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران: ٧٧] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب.
فإن قيل: إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب: أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً: فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.