فما يجعلك كاذباً بسبب الدين، وإنكاره، وقد خلقك في أحسن تقويمٍ، وأنه يردك إلى أرذلِ العمر، وينقلك من حال إلى حال فما الذي يحملك بعد هذا الدليل إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ [لأن كل مكذب بالحق، فهو كاذب فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذباً يعني: أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء؛ لأن كل مكذّب كاذب بسبب الجزاء]، والباء مثلها في قوله: ﴿على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠].
وقيل: المخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين، بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت، قاله الفرَّاء والأخفش.
قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين﴾ أي: أتقن الحاكمين صنعاً في كل ما خلق، وإذا ثبتت القدرة، والحكمة بهذه الدلالة صح القولُ بإمكان الحشرِ، ووقوعه، أمّا الإمكان فبالنظر إلى القدرة، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص: ٢٧].
وقيل: أحكم الحاكمين: قضاء بالحق، وعدلاً بين الخلق، وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي في الكلام صار إيجاباً، كقوله: [الوافر]
٥٢٥٢ - ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكبَ المَطَايَا....................................
[قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل: هي ثابتة لأنه لا تنافي بينهما].
وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إذا قرءا: ﴿أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين﴾، قالا: بلى، وإنَّا على ذلك من الشاهدين.
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم، لأنه تعالى أحكم الحاكمين، فلا يفعل فعل السفهاء.
وأجيب: بالمعارضة بالعلم، والداعي، ثم نقول: السَّفيهُ من قامت السفاهة به، لا من خلق السفاهة، كما أن المتحرك من قامت الحركة به بدلاً لا من خلقها. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon