ثم قال أبو حيان: والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل؛ لأن الغالب في «لا» أن تنفى المستقبل، ثم عطف عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نفياً للمستقبل؛ لأن اسم الفاعل العامل، الحقيقة فيه: دلالته على الحال، ثم عطف عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعبد ما يعبدون حالاً، ولا مستقبلاً وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر، ولما قال: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله: «مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول: إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ: كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول: ﴿لا أعبدُ مَا تعبدُون﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ﴾، فإني أعبد إلهي.
قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه، فلما تحقق النفيُ رجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى خطابه بقوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ﴾ مهادنة لهم، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في «لِيَ» : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه، وأسكنها الباقون.
وحذف «الياء» من «ديني» وقفاً ووصلاً: السبعة، وجمهور القراء، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب، وقالوا: لأنها اسم مثل الكاف في «دينك» والثاني قد تقدم إيضاحه.
فصل
في الكلام معنى التهديد، كقوله تعالى: ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [البقرة: ١٣٩]، أي: إن رضيتم بدينكم، فقد رضيناه بديننا، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[وقيل: السورة منسوخة.