﴿المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله﴾ ويكون المعنى: أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ.
وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان﴾ [الشورى: ٥٢] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب﴾ [مريم: ٣٠] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال: إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [مَا] خُلِقَ كامل العقلِ.

فصلٌ


دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
قوله تعالى: ﴿والمؤمنون﴾ : يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على «الرَّسُول» - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: «وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ»، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله: «كُلٌّ آمَنَ» جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر.
والثاني: أن يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأٌ، و «كلٌّ» مبتدأ ثانٍ، و «آمَنَ» خبرٌ عن «كُلّ» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ، تقديرُه: «كُلٌّ مِنْهُمْ» وهو كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم»، تقديرُه: مَنَوَانِ مِنْهُ، قال الزمخشريُّ: «والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كُلّ «راجعاً إلى» الرَّسُول «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و» المُؤْمِنُونَ «أي: كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين».


الصفحة التالية
Icon