مثلُه، أيْ: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ، وتقدَّم لك نظيره، والفرقُ بين العداوة والبغضاء: أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان: «العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ».
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين.
قال المفسرون: يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين.
وقيل: كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة: هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ.
قوله تعالى: «لِلْحَرْبِ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ ب «أوْقَدُوا»، أي: أوقدوها لأجْلِ الحرب.
والثاني: أنه صفة ل «نَاراً» فيتعلَّق بمحذوف، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و «أطْفَأهَا الله» جواب «كُلَّمَا»، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة، وقوله: «فَسَاداً» قد تقدَّم نظيره [الآية ٣٣ من المائدة]، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران: أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر، والثاني: ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ، وأن يكون حالاً، أي: يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ، أو: يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً، أو: يَسعوْن مُفْسِدين، وأن يكون مفعولاً من أجله، أي: يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في «الأرض» يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد.
ثم قال: ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ.