أكِنَّةً» أغْطِيَةً جمع «كِنَان»، كالأعِنَّة جمع «عِنَان» «أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانْهِمْ وَقْراً» أي: صَمَاً وثقلاً.

فصل بيان الدلالة من الآية


احتج أهْلُ السُّنةِ بهذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يَصْرِفُ عن الإيمان، ويَمْنَعُ منه؛ لأنه - تعالى - جعل القَلْبَ في الكِنَانِ الذي يمنعه عن الإيمان.
قالت المعتزلة: لا يمكن إجْراءُ هذه الآية على ظَاهرِهَا لوجوهٍ.
أحدهما: أنه - تبارك وتعالى - وإنَّما أنزل القرآن العظيم حُجَّةً للرُّسُلِ على الكُفَّارِ، لا ليكون حُجَّةً للكُفِّارِ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كان المرادُ من هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - منع الكُفَّارَ عن الإيمان، لكان لهم أن يقولوا لرسول عليه الصَّلاة والسَّلامُ لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يَذِمَّنَا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان.
وثانيها: أنه تبارك وتعالى لو مَنَعَهُمْ من الإيمان، ثم دَعَاهُمْ إليه لكان ذلك تكليفاً لِلْعَاجِزِ، وهو مَنْفِيِّ بصريح العَقْلِ، وبقوله تبارك وتعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وثالثها: أنه - تعالى - حكى ذلك الكلام عن الكُفَّارِ في معرض الذَّم، فقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] وقال في آية أخرى: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُون﴾ [البقرة: ٨٨].
وإذا كان قد حَكَى عنهم هذا المَذهَبَ في معرض الذَّم لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقُضُ.
ورابعها: أنه لا نَزَاعَ في أنَّ القَوْمَ كانوا يَفْقَهُوَن، ويَسْمَعُونَ، ويعقلون.
وخامسها: أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في معرض الذَّمِّ على ترك الإيمان، وإذا كان هذا الصَّدُّ، والمَنْعُ من قِبَلِ الله - تعالى - لما كانوا مَذْمُمينَ، بل كانوا معْذُورينَ.
وسادسها: أن قوله: ﴿حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ يَدُلُّ على أنهم كانوا يفقهون، ويُمَيِّزُونَ الحَقَّ من الباطل، وعند هذا فلا بُدَّ من التأويل وهو من وُجُوه:
الأول: قال الجُبَّائِيُّ: إنَّ القوْمَ كانوا يَسْتَمِعُونَ قِراءةَ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لِيَتَوَصَّلُوا بسمامع قراءته إلى مَعْرِفةِ مكانه باليل، فيقصدوا قَتْلَهُ وإيذَاءهُ، فكان اللَّهُ - تبارك وتعالى - يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنَّةِ ويثقل أسْماعَهُمْ عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النَّوْمِ، وهو المراد من قوله: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾.


الصفحة التالية
Icon