فالفاتحةُ تضمَّنت مناجاةً للخالق جامعةً التنزهَ عن التعطيلِ، والإلحاد، والدّهرية بما تضمنه قولُه: [مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ] وعن الإشراك بما تضمّنه [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] وعن المكابرةِ والعناد بما تضمنه [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
فإنَّ طلبَ الهدايةِ اعترافٌ بالاحتياج إلى العلم، وَوَصْفَ الصراطِ بالمستقيم اعترافٌ بأن من العلم ما هو حقٌّ، ومنه ما هو مشوبٌ بِشُبَهٍ وغَلَط.
ومَنِ اعترَفَ بهذين الأمرين فَقَدْ أعدَّ نفسَه لاتِّباع أَحْسَنِهما، وعن الضلالات التي تعتري العلومَ الصحيحةَ، والشرائعَ الحقةَ؛ فتذهبُ بفائدتها، وتُنْزِلُ صاحبها إلى دركةٍ أقلَّ مما وقفَ عنده الجاهلُ البسيطُ، وذلك بما تضمَّنه قولُه: [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] كما أجملناه قريباً.
ولأجل هذا سُمِّيَتْ هاتِه السورةُ أمَّ القرآن _ كما تقدم _.
ولما لُقِّن المؤمنون هاتِهِ المناجاةَ البديعةَ التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غيرُ علامِ الغيوب _سبحانه_ قُدَّم الحمدُ عليها؛ ليضَعَه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم، وَطِلْبَتَهم بالثناء، والذكرِ الجميل.
قال أميةُ بنُ أبي الصلتِ يمدحُ عبدَ اللهِ بنَ جُدْعان:
أَأَذْكُرُ حاجتي أم قَدْ كَفاني | حياؤك إن شيمتَك الحياءُ |
إذا أثنى عليك المرءُ يوماً | كفَاه عن تعرُّضه الثناءُ |