فاتسع المجالُ لدعوة المُنصِفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعاً، وتَخَلَّص إلى صفة بدء خلق الإنسان؛ فإن في ذلك تذكيراً لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامُهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح، ومَنْ بعدهم، ومِنَّةً على النوع بتفضيل أصلِهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بِعِلْمِ ما لم يَعْلَمْهُ أهلُ الملأ الأعلى، وكيف نشأت عداوةُ الشيطان له ولنسله؛ لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها، ولمحاسبتها على دعواتها؛ فهذه المنَّةُ التي شملت كلَّ الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبةً للتخلص إلى مِنَّة عظمى تخص الفريق الرابع، وهم أهل الكتاب الذين هم أشدُّ الناس مقاومة لهدى القرآن، وأَنْفَذُ الفرقِ قولاً في عامة العرب؛ لأن أهلَ الكتاب يومئذ هم أهلُ العلم، ومظنةُ اقتداءِ العامة لهم من قوله: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله، وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نِعَمَهُ الجمةَ من الانحراف عن الصراط السوي انحرافاً بلغ بهم حد الكفر، وذلك جامع لخلاصة تكوين أمةِ إسرائيل، وجامعتِهم في عهد موسى، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قَفَوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة؛ حتى على المَلَكِ جبريلَ، وبيان أخطائهم؛ لأن ذلك يلقي في النفوس شكاً في تأهلهم للاقتداء بهم، وذَكَر من ذلك نموذجاً من أخلاقهم من تعلق الحياة [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] ومحاولة العمل بالسحر [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] الخ، وأذى النبي بموجَّه الكلام: [لا تَقُولُوا رَاعِنَا].