تعددت الوسائط التي يأتي بها الوحي إلى رسول الله - ﷺ - هما المذكورتان في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - ﷺ - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي. فقال رسول الله - ﷺ - :(أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهوأشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول) قالت عائشة-رضي الله تعالى عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً (١)، وفي لفظ له: (كل ذاك: يأتي الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس... ).
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "فقوله (كيف يأتيك الوحي) يحتمل أن يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك، وقوله: (كل ذلك يأتي الملك): أي كل ذلك حالتان" (٢).
وهل مجيء الوحي منحصر في الحالتين ؟ظاهر الحديث يشير إلى ذلك، خاصة مع قوله: (يأتيني على نحوين) في رواية ابن سعد (٣)، وقوله (كل ذاك يأتي الملك)، وفيه فائدة جليلة من حيث مجيء الوحي في صورة معلومة محسوسة لا يمكنه الشك فيها، بخلاف ما لو كان إلهاماً مثلاً، وليس المراد هنا نفي الإلهام عن النبي - ﷺ -، بل هو ثابت، لكن لا لتبليغ الوحي المأمور بتبليغه؛ إذ هذا يرجع إلى هاتين الصورتين لذا الدليل، ومن قال بالعكس فضمان الدليل عليه.
... والمقتضى المنهجي لذلك: غرس الاطمئنان على دقة نقل الوحي القرآني من حيث مجيئه في صورة محسوسة، فلا لبس فيها أولاً، ولا يتطرق القادح إليها بسبب الخفاء ثانياً، بخلاف الإلهام في كل ذلك حيث يمكن ادعاء ذلك فيه لخفائه.
(٢) فتح الباري ١/٢٢، مرجع سابق.
(٣) الطبقات الكبرى ١/١٩٧، مرجع سابق، وقال عنها ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "مرسل مع ثقة رجاله".