ثم رحل للحج ؛ فسمع من أبي طاهر السِلَفي بالإسكندرية وغيره. ولما دخل مصر، أكرمه القاضي الفاضل وعرف مقداره، وأنزله بمدرسته التي بناها بدرب الملوخيا داخل القاهرة، وجعله شيخها، وعظمه تعظيماً كثيراً، فجلس بها للإقراء، وقصده الخلائق من الأقطار، وبها أتم نظَم هذا المتن المبارك حرز الأماني ووجه التهاني، ونظم أيضاً قصيدته الرائية المسماة :« عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد » في علم الرسم، ويقول الإمام الذهبي في كتابه معرفة القراء الكبار عنهما " ولقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد اللتين في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لها فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء فلقد أبدع و أوجز وسهل الصعب " وله قصيدة أخرى تسمى « ناظمة الزهر » في علم عدد الآي. وقصيدة دالية خمسمائة بيت لخَّصَ فيها « التمهيد » لابن عبد البر، وكان إماماً كبيراً، أعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظاً للحديث، بصيراً بالعربية، إماماً في اللغة، رأساً في الأدب، مع الزهد والولاية، والعبادة، والإنقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظباً على السُّنَّة ؛ قال ابن خلكان رحمه الله تعالى :« كان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ، تُصحح النسخ من حفظه ».
ويقال إنه وُلد أعمى، وكان لا يتكلم إلاََّ بما تدعو الضرورة إليه، ولا يجلس للإقراء إلاَّ على طهارة، في هيئة حسنة وخضوع واستكانة، ويمنع جلساءه من الخوض إلاَّ في العلم والقرآن ؛ وكان يعتل العلة الشديدة ولا يشتكي، ولا يتأوَّه ؛ وإذا سُئل عن حاله قال : العافية ؛ لا يزيد على ذلك. اهـ.