وهذا التخفيف الذي تحدثنا عنه وأصبح مميزاً لقراءة أبي عمرو عن بقية قراءات القرآن الكريم نجد أبا عمرو أحياناً لا يختاره ويختار التثقيل خلافاً لما عهدنا عنده وعرفناه به ويكون هذا التشديد الذي يختاره ويقرأ به يحمل وجهاً في القراءة وعمقاً في اللُّغة لا يحمله التخفيف مع التزام القارئ بالأثر عن رسول الله - ﷺ - لا يحيد عنه، وأقرب ما وجدناه يوضح هذا المعنى في مطالعتنا لتوجيه هذه القراءة ما ذكره ابن خالويه في كتابه: "الحُجَّة في القراءات السبع"، حيث قرأ أبو عمرو بالتشديد مرة وبالتخفيف مرة في فعل واحد ولكن في آيات مختلفة.
ففي قوله تعالى في سورة آل عمران (١) فقد قرأ كلمة (يُبشّرك) بالتشديد بضمّ الياء مع تشديد الشين، والقراءة الأخرى بفتح الياء مع التخفيف. قال ابن خالويه: وهما لغتان فصيحتان، والتشديد أكثر والتخفيف حسن مستعمل.
فإن قيل: لِمَ خالف أبو عمرو أصله فخفّف قوله (٢)، فقل: إنَّ أبا عمرو فرّق بين البشارة والنضارة، فما صحبته الباء (٣) شدّد فيه، لأنّه من البشرى، وما سقط منه الباء خفّفه (٤)، لأنّه من الحسن والنضارة، وهذا من أدلّ الدليل على معرفته بتصاريف الكلام، غير أنَّ التخفيف لا يقع إلاَّ فيما سرّ، والتشديد يقع فيما سرّ وضرّ" (٥).
[٥] مخالفة القُرَّاء في حروف أجمعوا على قراءتها

(١) سورة آل عمران، الآية (٤٥).
(٢) سورة الشورى، الآية (٢٣).
(٣) يقصد إذا تعدى بالباء كقوله تعالى نبشرك بكلمة.
(٤) كقوله تعالى.
(٥) ابن خالويه: الحُجّة في القراءات السبع، ص ١٠٩.


الصفحة التالية
Icon