يعلم من هذا أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد ﷺ فيها حكم الله
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله ﷺ وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما يختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحدا أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا بخلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور وبالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ وذلك أن اليهود قبل النبي ﷺ وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان هذا ممكنا لكان ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى ﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾
فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله تعالى في الإنجيل ﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ﴾ هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد ﷺ
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال ﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾