المحرر الوجيز، ج ١، ص : ١٥٦
وقوله تعالى : بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله : بِغَيْرِ الْحَقِّ عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح اللّه تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل اللّه من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره :«لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر».
وقوله تعالى : ذلِكَ رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بِما باء السبب، ويَعْتَدُونَ معناه : يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي.
قوله عز وجل :
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
اختلف المتأولون في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية، فقال سفيان الثوري : هم المنافقون في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، كأنه قال : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، ثم بين حكم من آمن باللّه واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله مَنْ آمَنَ في المؤمنين المذكورين : من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة : من دخل في الإيمان. وقالت فرقة : الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون حقا بمحمد صلى اللّه عليه وقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى اللّه عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وَالَّذِينَ هادُوا كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى اللّه عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، وَالنَّصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى اللّه عليه وسلم، وَالصَّابِئِينَ كذلك، قال : إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضا ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عبادا من النصارى فقال له آخرهم :
إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر اللّه بها أن من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران : ٨٥] وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon