المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٤٣٠
وأبو بكر وعمر؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذورا، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيرا من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريرا ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا، ومثال ذلك، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان.
وقوله تعالى : وَحَصُوراً أصل هذه اللفظة الحبس والمنع، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيرا وجهنم حصيرا، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور، قال الأخطل :[البسيط]
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوّار
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر، قال جرير :[الكامل ]
ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرّك يا أميم ضنينا
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد اللّه وإما أبوه عن النبي عليه السلام، أنه قال : كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء، قال : ثم دلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال : وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه اللّه سيدا وحصورا، وقال ابن مسعود «الحصور» العنين، وقال مجاهد وقتادة، «الحصور» الذي لا يأتي النساء، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء.
قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنينا لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه كان يمسك نفسه تقى وجلدا في طاعة اللّه وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح، إلا بأن اللّه يسر له شيئا لا تكسب له فيه، وباقي الآية بيّن، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية اللّه حتى خدد الدمع في وجهه طرقا وأخاديد.