المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٤٥٣
وقوله تعالى : لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ معناه تخلطون، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته، ومنه قوله تعالى : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام : ٩] وتقول : لبست الثوب بكسر الباء، قال ابن زيد :
الْحَقَّ الذي لبسوه هو التوراة المنزلة، و«الباطل» الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة، وقال ابن عباس : الْحَقَّ إسلامهم بكرة، و«الباطل» كفرهم عشية، والآية نزلت في قول عبد اللّه بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف. تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار، ونكفر آخره، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم، وقال قتادة وابن جريج : لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين اللّه الذي لا يقبل غيره الإسلام.
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها؟ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين، وقال بعض المفسرين : الْحَقَّ الذي لبسوه قولهم : محمد نبي مرسل، و«الباطل» الذي لبسوه به قول أحبارهم : لكن ليس إلينا بل ملة موسى مؤبدة، وقوله تعالى : وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد شأن محمد صلى اللّه عليه وسلم، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم، وفي قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توقيف على العناد ظاهر، قال أبو إسحاق الزجّاج : ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك، لم تجمعون ذا وذا، على أن تكتموا في موضع نصب على الصرف في قول الكافرين، وبإضمار «أن»، في قول أصحابنا، قال أبو علي : الصرف هاهنا يقبح، وكذلك إضمار «أن»، لأن تَكْتُمُونَ، معطوف على موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم : أتأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي :[الرجز] وألحق بالحجاز فاستريحا وقد قال سيبويه في قولك : أسرت حتى تدخل المدينة؟ لا يجوز إلا النصب في تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب، وإذا قلت : أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت، لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع، قال الحسن : قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم : قال بعض الأحبار :
لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك : ما بال هؤلاء كانوا معناه ثم انصرفوا عنا؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام.