المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٥٠٨
بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر اللّه لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها، ويدخلكم جنة، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ، معناه : إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام.
قال الفقيه القاضي : هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة، وقوله تعالى : عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تقديره : كعرض السماوات والأرض، وهذا كقوله تعالى : ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان : ٢٨] أي كخلق نفس واحدة وبعثها، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح، ومنه قول الشاعر :[ذو الخرق الطهوي ] :[الوافر] :
حسبت بغام راحلتي عناقا وما هي ويب غيرك بالعناق
ومنه قول الآخر :
كأنّ غديرهم بجنوب سلي نعام فاق في بلد قفار
التقدير صوت عناق وغدير نعام.
وأما معنى قوله تعالى : عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا اللّه، وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الحديث عنه صلى اللّه عليه وسلم : أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء اللّه تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي عليه السلام : ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض، وقدرة اللّه تعالى أعظم من ذلك كله، وروى يعلى بن أبي مرة قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحمص، شيخا كبيرا قد فند فقال قدمت على النبي عليه السلام، بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره فقلت : من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا : معاوية، فإذا كتاب هرقل : إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فأين النار؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : سبحان اللّه، فأين الليل إذا جاء النهار؟ وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فقال أحدهما : تقولون جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أين تكون النار؟ فقال عمر رضي اللّه عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار؟ فقال اليهودي :
إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه : لم أخبرته؟ دعه إنه بكل موقن.
قال القاضي أبو محمد : فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد، من أن قدرة اللّه تتسع لهذا كله،