المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٥١٠
العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في اللّه، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه، ملأه اللّه أمنا وإيمانا، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث يتجه حقه، وقال أبو العالية : وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، يريد المماليك.
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة، فهم مذنبون كثيرا، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به، وذكر تعالى بعد ذلك أنه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام، فقال : ما الإيمان؟ ثم قال ما الإسلام؟ فذكر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المفروضات، ثم قال له : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد اللّه كأنك تراه، الحديث.
قوله تعالى :
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
ذكر اللّه تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول اللّه، كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل اللّه هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية، وروى أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له، وقوله وَالَّذِينَ عطف جملة ناس على جملة أخرى، وليس الَّذِينَ بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، و«الفاحشة» هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة، وهو لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنا، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا، وقال جابر بن عبد اللّه لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر، وذَكَرُوا اللَّهَ معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : رحم اللّه صهيبا لو لم يخف اللّه لم يعصه، و«استغفروا» معناه : طلبوا الغفران، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم»، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، اعتراضا موقفا للنفس، داعيا إلى اللّه، مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم اللَّهَ مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب، حملا على المعنى، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا اللّه، وقوله تعالى : وَلَمْ يُصِرُّوا الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر، وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير : أي الربط
عليها، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي :«علم اللّه أنها مني صرى».