المحرر الوجيز، ج ١، ص : ٥٥٧
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
«استجاب» استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر :[الطويل ]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله : أَنِّي يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني»، وقرأ عيسى بن عمر :«إني» بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من اللّه تعالى : أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت : يا رسول اللّه، قد ذكر اللّه تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله : مِنْ ذَكَرٍ تبيين لجنس العامل، وقال قوم : مِنْ زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى : بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في اللّه تعالى وهاجر أيضا إلى اللّه تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة : ٢٦١] و«هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في اللّه كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة، وقوله تعالى : وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده :[الطويل ] (وردني... إلى اللّه من طردت كل مطرد) فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنت طردتني كل مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير :[البسيط]
في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللّقاء ولا ميل معازيل
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو :«و قاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير :«و قاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي :«و قتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه : إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل