المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٤٧
المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، وقال جمهور الناس : الْهَدْيَ عام في أنواع ما أهدي قربة والْقَلائِدَ ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى اللّه تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني.
وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره، وقوله تعالى : وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى اللّه تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة : ٥] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما لأصحابه :«يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما عرض رسول اللّه عليه السلام ودعاه إلى اللّه قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره.
فخرج فقال النبي عليه السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر»، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجا وساق هديا فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبعث إليه.
وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فنزلت هذه الآية، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون، فقال المسلمون يا رسول اللّه، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «و لا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا اللّه وفضله بالرحمة والجزاء، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «و رضوانا» بضم الراء.