المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٧٠
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع
وقرأ الأعمش :«على خيانة منهم»، ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال، وقوله تعالى : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية وباقي الآية وعد على الإحسان.
قوله عز وجل :
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
مِنَ متعلقة ب أَخَذْنا التقدير : وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله وَمِنَ معطوفا على قوله خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة : ١٣]، ويكون قوله أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ابتداء خبر عنهم. والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين اللّه، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين اللّه وأنبيائه، وقوله تعالى : فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في بَيْنَهُمُ يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم اللّه تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
وقوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله : رَسُولُنا يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم، وفي الآية الدلالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القراءة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند اللّه تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها اللّه على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى غير ذلك. ومِنَ الْكِتابِ يعني من التوراة وقوله : وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ معناه ويترك كثيرا لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام اللّه قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في يَعْفُوَ هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى اللّه تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من اللّه تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.


الصفحة التالية
Icon